فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والوزن} أي وزنُ الأعمالِ والتمييزُ بين راجحِها وخفيفِها وجيّدِها ورديئها، ورفعُه على الابتداء، وقولُه تعالى: {يَوْمَئِذٍ} خبرُه وقوله تعالى: {الحق} صفتُه، أي والوزنُ الحقُّ ثابتٌ يومَ إذ يكون السؤالُ والقَصّ، وقيل: خبرُ مبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: ما ذلك الوزن؟ فقيل: الحقُّ أي العدلُ السويُّ، وقرئ {القسطُ} واختُلف في كيفية الوزن والجمهورُ على أن صحائفَ الأعمالِ هي التي توزن بميزان له لسانٌ وكِفّتان ينظُر إليه الخلائقُ إظهارًا للمَعْدلة وقطعًا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وجوارحُهم ويشهد عليهم الأنبياءُ والملائكةُ والأشهادُ وكما يُثبَتُ في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب، ويؤيده ما رُوي «أن الرجلَ يؤتى به إلى الميزان فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سجِلًا مدى البصر فيخرُج له بطاقةٌ فيها كلمتا الشهادة فتوضَع السجلاتُ في كِفة والبِطاقةُ في كفة فتطيش السجلاتُ وتثقُل البطاقةُ» وقيل: يوزن الأشخاصُ لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: «أنه ليأتي العظيمُ السمينُ يوم القيامة لا يزنُ عند الله جناحَ بعوضة» وقيل: الوزنُ عبارة عن القضاء السويِّ والحُكمُ العادلُ وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثيرٌ من المتأخرين بناءً على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة والعُرفِ بطريق الكناية قالوا: إن الميزانَ إنما يُراد به التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ، ومقاديرُ أعمالِ العباد لا يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها لا تَقبل الوزن، وقيل: إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبحِ حتى إن الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حُمل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وقوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} وكذا قولُه عليه الصلاة والسلام في حق مَنْ يشرب من إناء الذهب والفضةِ: «إنما يُجرجِر في بطنه نارَ جهنم» ولا بُعدَ في ذلك، ألا يُرى أن العلم يَظهر في عالم المثالِ على صورة اللبنِ كما لا يخفى على من له خِبرةٌ بأحوال الحضَراتِ الخمس. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورٍ حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صور قبيحةٍ فتوضع في الميزان إن قيل: إن المكلّف يوم القيامةِ إما مؤمنٌ بأنه تعالى حكيمٌ منزَّهٌ عن الجَوْر فكيفيةُ حكمِه تعالى بكيفيات الأعمالِ وكمياتها ظاهرةٌ، وإما منكِرٌ له فلا يسلمُ حينئذ أن رجحانَ بعضِ الأعمالِ على بعض لخصوصيات راجعةٍ إلى ذوات تلك الأعمالِ بل يُسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدةُ في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحالُ يومئذ وتظهر جميعُ الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالِها في أنفسها من الحسن والقبحِ وغيرِ ذلك وتنخلع عن الصور المستعارةِ التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدَها شُبهةٌ في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقيةِ المستتبِعةِ لصفاته، ولا يخطُر بباله خلافُ ذلك والله تعالى أعلم.
{فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} تفصيلٌ للأحكام المترتبة على الوزن، والموازينُ إما جمعُ ميزانٍ أو جمعُ موزونٍ على أن المرادَ به ما له وزنٌ وقدْرٌ وهو الحسنات، فإن رجحانَ أحدِهمامستلزم لرجحان الآخَر، أي فمَنْ رجَحت موازينُه التي توزن بها حسناتُه أو أعمالُه التي لها قدْرٌ وزنة، وعن الحسن البصري وحُقّ لميزانٍ توضع فيه السيئاتُ أن يخِفّ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافِه بثقل الميزانِ، والجمعيةُ باعتبار معناه كما أن جمعَ الموازينِ لذلك، وأما ضميرُ موازينِه فراجعٌ إليه باعتبار لفظِه، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعد منزلتهم في الفصل والشرف {هُمُ المفلحون} الفائزون بالنجاة والثوابِ، وهم إما ضميرُ فصلٍ يفصل بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك، وتعريفُ المفلحون للدِلالة على أنهم الناسُ الذين بلغك أنهم مُفلحون في الآخرة، أو إشارةٌ إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{والوزن} أي: لصحائف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ينظر إليها الخلائق إظهارًا للعدل وقطعًا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي أنّ رجلًا يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلًا كل سجل مدّ البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة والبطاقة رقعة صغيرة تجعل في طيّ الثوب يكتب فيها ثمنه، وقيل: توزن الأعمال.
روي عن ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان، وقيل: توزن الأشخاص لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» وقوله تعالى: {يومئذٍ} أي: يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة خبر المبتدأ الذي هو الوزن، وقوله تعالى: {الحق} أي: العدل السوي صفته {فمن ثقلت موازينه} أي: رجحت على ما يعهد في الدنيا بصحائف الأعمال أو حسناته أو به على الأقوال الماضية، وعن الحسن: وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يرجح ويثقل وحق لميزان توضع فيه السيآت أن يخف.
فإن قيل: الميزان واحد فما وجه الجمع؟
أجيب: بأنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأنّ الميزان يشتمل على الكفتين واللسان والساهون ولا يتم الوزن إلا بذلك كله، وقيل: جمع لاختلاف الموزونات وتعدد الجمع فهو جمع موزون أو ميزان {فأولئك هم المفلحون} الفائزون بالنجاة والثواب. اهـ.

.قال الألوسي:

{والوزن} أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء، وهو مبتدأ وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} متعلق بمحذوف خبره، وقوله تعالى: {الحق} صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص.
واختار هذا بعض من المعربين، وقيل: الظاهر أن {الحق} خبر و{يَوْمَئِذٍ} ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف.
ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل.
وفي الكشف ليس المعنى على أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن الحق بدل من الضمير المستتر في الظرف، وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدأ لاسيما والظرف يتوسع فيه.
وجوز أبو البقاء أن يكون {الحق} خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق أي العدل السوي.
وأن يكون {الوزن} خبر مبتدأ محذوف أيضًا أي هذا الوزن وهو كما ترى.
وقرئ {القسط} والوزن كما قال الراغب معرفة قدر الشيء يقال: وزنته وزنا وزنة، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان.
واختلف في كيفيته يوم القيامة.
والجمهور كما قال القاضي على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهارًا للمعادلة وقطعًا للمعذرة كما يسألون عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم.
ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها.
ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلًا كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون فيقول: لا يا رب فيقول سبحانه أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول لا يا رب فيقول جل شأنه: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات ثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء».
وهذه الشهادة على ما قاله القرطبي نقلًا عن الحيكم الترمذي ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معًا فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات.
وأيد ذلك بقوله جل وعلا في الحديث: «إن لك عندنا حسنة» دون أن يقول سبحانه: إيمانًا.
وجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا.
وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد، ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر.
وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا والنميري في كتاب الإعلام عن عبد الله أيضًا قال: إن لآدم عليه السلام من الله عز وجل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة والسلام: لبيك يا أبا البشر فيقول: هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قال صلى الله عليه وسلم: فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول: يا رسل ربي قفوا فيقولون.
نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما أمرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلى الله عليه وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول: يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمدًا وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلى الله عليه وسلم بطاقة بيضاء كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي: قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول: يا بني أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة والسلام.
أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون إليها انتهى.
ولعل فعل مثل هذا إذا صح الخبر مبالغة في إظهار كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه عز وجل بين الأولين والآخرين.
وقيل: توزن الأشخاص، واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: إنه ليؤتى العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى من الميزان إذا وضع المذنب في إحداهما، ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى، والخبر ليس نصًا في الدعوى كما لا يخفى، وقيل: إن هذه الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال: إن عليه الاعتقاد، وفي الآثار ما يؤيده.
فقد أخرج ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي قال: يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له: أتدري ما هذا؟ فيقول: لا فيقال له: هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس، وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه.